طارق بدراوى
حي محرم بك قسم من أقسام حى وسط الإسكندرية العاصمة الثانية لمصر وكان قبل ثورة عام 1952م يعتبر حى الطبقة الأرستقراطية حيث كانت تنتشر به القصور والفيلات كما أنه متاخم لمحطة السكة الحديد الرئيسية لمدينة الإسكندرية المسماة محطة مصر كما أنه يعد مدخل مدينة الإسكندرية من طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوى وإلي جنوبه توجد بحيرة مريوط ومن ناحية الشرق يحده حي سموحة ومن الشمال يحده حي الشاطبي وحي الأزاريطة وعندما تطأ قدمك هذا الحي العريق بعد وصولك إلي نهاية طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوى تصل لأنفك رائحة الخبز الطازج المختلطة برحيق الأسماك المشوية الممزوجان بأدخنة التبغ المنبعثة من مصنع الشركة الشرقية للدخان حاليا كوتاريللي اليوناني سابقا كما يصل إلي أذنيك ضجيج الترام الأصفر حيث أنت الآن تقف في وسط مدينة الإسكندرية في حي محرم بك الذي كان يوما أحد أهم الأحياء الأرستقراطية في المدينة ذات الطابع الكوزموبوليتاني والذى يمتاز بثرائه التاريخي وأعلامه من الفنانين والكتاب والشعراء وكان حتى وقت قريب أشبه بضاحية راقية تقبع على ضفاف ترعة المحمودية جنوبي مدينة الإسكندرية حيث نزحت إليه صفوة المجتمع من البارونات والأمراء والأثرياء بعد قصف الأسطول البريطاني لمدينة الإسكندرية سنة 1882م وتحديدا للحي الأوروبي في منطقة المنشية ليصبح الحي مركزا لتجمع الجاليات الأجنبية التي خلقت لنفسها حياة إجتماعية متكاملة فيه وعلى الأخص الجاليات الإيطالية واليونانية والتركية واليهودية …..
وقد سمي الحي بإسم محرم بك زوج السيدة تفيدة هانم كريمة محمد علي باشا والي مصر والذى كان قائدا للأسطول البحري المصري حتى عام 1826م في عهد حميه وصهره محمد علي باشا وتخليدا لبطولاته سمي الحي بإسمه وأطلق إسمه أيضا على أطول وأوسع شوارع الحي وحتي الخمسينيات من القرن العشرين الماضي كان ركوب الترام المار بهذا الحي العريق يعد نزهة لطيفة راقية ومن عاصر تلك الفترة يتذكر كيف كان الكمساري يحصل التذكرة من ركاب الترام قائلا بابتسامة لطيفة تذاكر يا هانم تذاكر يا بك وكيف كانت العائلات السكندرية في محرم بك تتباهى بإستضافتها أحد الفنانين أو الكتاب أما السير علي الأقدام والتجول في أنخاء وربوع الحي فقد كان متعة جميلة رائعة لامثيل لها تطيب لها النفس حيث شوارعه المرصوفة ببلاطات البازلت الأسود اللامعة والمتميزة بالهدوء والتي تتنتشر على جوانبها أشجار الموز والأشجار المعمرة الوارفة والممتدة الظلال ولكن للأسف لم يعد هذا هو الخال الآن بعد أن تبدلت أحوال الحي إلي الأسوأ فقد أصبح الحي شعبيا تتقلص فيه الطبقة الوسطى تدريجيا حتي كادت أن تنقرض منه بعدما إنقرضت منه بالفعل وتلاشت الطبقة الأرستقراطية تماما وتهدمت معظم قصوره وفيلاته الأنيقة الفاخرة وإقتلعت أشجاره ووقفت مكانها كتل خرسانية ضخمة قبيحة المنظر وكذلك تغيرت طبيعة ساكنى الحي حيث أصبح النوبيون الآن نسبة كبيرة من سكان هذا الحي الذي أصبح مركزا لهم حيث إستوطنوا الجزء المحيط بمنطقة محطة مصر منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادى حيث كانوا يعملون مع الأجانب والطبقة الأرستقراطية التي كانت تسكن الحي …..
ومن أهم معالم هذا الحي نجد العديد من الكنائس الكبيرة بأجراسها والتي تختلط بأصوات المآذن الشامخة في تسامح وتآلف ديني جميل يجسد مقولة الدين لله والوطن للجميع ووحدة النسيج الوطني المصرى بعنصريه من المسلمين والأقباط وهي الميزة التي تتمتع بها مصر منذ أقدم العصور وحيث يوجد بهذا الحي مسيحيون أكثر من أي حي آخر بالإسكندرية وعندما تسير في شوارعه ستجد الكثير من دور الكتاب المقدس التي تزين واجهاتها صور المسيح والسيدة العذراء وتعد تلك الكنيسة من أبرز المعالم الأثرية المسيحية في الإسكندرية عموما وقد تم إفتتاحها يوم الخميس الموافق سنة 1934م في عهد الملك فؤاد وأقيم إحتفال مهيب حضره حينذاك بابا الأقباط الراحل الأنبا يؤانس وعدد كبير من أهم الشخصيات السكندرية آنذاك ومنهم الأمير عمر طوسون وأعضاء المجلس الملي العام ومن القصص الأسطورية التي إرتبطت بتلك الكنيسة ظهور السيدة العذراء عند القبة وحماية كنيستها إذ تروى الكثير من القصص في الحي عن رؤية سيدة تلبس ملابس بيضاء زاهية كانت تمشي فوق سطح الكنيسة أثناء غارة جوية قامت بها القوات الإيطالية إبان الحرب العالمية الثانية عام 1942م علي مدينة الإسكندرية وقامت بإلقاء قنبلة علي سطح الكنيسة وأزاحت القنبلة بيدها لتسقط بعيدا عن الكنيسة فسقطت خلفها وتسببت في هدم عدد 3 منازل وتطايرت بعض الشظايا وإخترقت حائط الكنيسة الخلفي ولم تؤثر على شيء يذكر سوى ما أحدثته من فجوة كبيرة تبلغ مساحتها مترا مربعا فوق صورة السيدة مريم العذراء بالمقصورة الخاصة بها إلا أن الصورة بقيت سليمة حتى لوح الزجاج الذي يغطيها لم ينكسر ويقال إن تلك كانت القنبلة الأخيرة التي ألقيت على القطر المصري ولم تتكرر تلك الغارات بعد ذلك وعادت مصر آمنة والإسكندرية سالمة ……
ومن معالم الحي أيضا مكتبة البلدية الملحقة بمتحف الفنون الجميلة الذي أنشئ في عهد الملك فاروق الأول حين وهب البارون اليهودي شارل دي مانشا المعروف بعشقه للفن فيلا يملكها بالحي لكي تكون مكتبة ومتحفا للصور وهو يضم حاليا مجموعة من أروع أعمال الفنانين المصريين والعرب والأجانب لاتوجد في أي مكان آخر في العالم ويقام به بينالي الإسكندرية السنوى لدول البحر الأبيض المتوسط منذ أكثر من 50 عاما ويضم حي محرم بك مدرسة سان جوزيف الفرنسية التي كانت من قبل فيلا أحمد مظلوم باشا وتحولت إلى ملجأ القديس يوسف في الأول من شهر نوفمبر عام 1885م في عهد الخديوى توفيق ثم تحولت بناءا على طلب أهالي الحي إلى مدرسة في عام 1892م في عهد الخديوى عباس حلمي الثاني فضلا عن ملجأ سان فرانسيسكو وهو ملجأ الرهبان السلوفانيين المتقاعدين الذين جاءوا إلى مصر عبر ميناء تريستا في الفترة من عام 1870م وحتى عام 1950م …..
أما ما تبقى من بصمات الجالية اليهودية في محرم بك فهو قصر البارون مانشا الذي تحول إلى مدرسة المشير أحمد بدوي وملجأ اليهود العجزة لافوييه الذي أسسه رجل الأعمال اليهودي إبرام عاداه بك في شارع الرصافة والذي تحول إلى مستشفى النزهة حاليا وحتى وقت قريب كان يعيش به عدد من اليهود السكندريين كما شيد عاداه بك مستشفى الرمد حاليا الذي يقع في منطقة وابور المياه وعلى مقربة من محطة مصر بجوار النادي الأوليمبي السكندرى وقد إفتتح المستشفى عام 1929م في عهد الملك فؤاد وكان يستقبل المرضي من كل الجنسيات …..
وأيضا من معالم الحي والتي تركتها الجالية الألمانية مستشفى الملكة ناريمان والذي أنشئ في سنة 1886م في عهد الخديوى توفيق وكان يعرف باسم البروسيا وفي أعقاب الحرب العالمية الأولي أطلق عليه إسم مستشفى الأنجلسويس حتى عام 1918م ثم سمي مستشفى الأميرة فوزية بعد تأسيس جامعة فاروق الأول سابقا جامعة الإسكندرية حاليا حيث تم شراء المستشفى عام 1948م وفي عام 1950م أصبح إسمه مستشفى الملكة ناريمان بعد زواج الملك فاروق بالملكة ناريمان ملكة مصر السابقة وبعد قيام الثورة تم تسمية المستشفى بإسم مستشفي الحضرة الجامعي ومن البصمات والمعالم التي تركتها الجالية الإيطالية في حي محرم بك المدرسة الطلياني الدون بوسكو وهي مدرسة فنية للبنين والمستشفى الإيطالي الذي بني عام 1926م في عهد الملك فؤاد والذي له طراز معماري متميز كالأكواخ الخشبية وكذلك المستشفى الإيطالي الماتيرناتيه الذي إفتتحه المهندس الإيطالي الشهير لوريا عام 1923م في عهد الملك فؤاد أيضا وهو مستشفى للولادة وللأسف الشديد فقد طمست معالم الكثير من الأعمال الفنية التي كان يزدان ويتميز بها الحي للكثير والعديد من الفنانين التشكيليين الإيطاليين …..
ومن بين أهم المساجد التي توجد في حي محرم بك مسجد أنجه هانم الواقع على ترعة المحمودية وقد سمي بإسم أنجه هانم زوجة والي مصر محمد سعيد باشا وعلى ضفة المحمودية أيضا يقبع قصر الأمير عمر طوسون الملقب بأمير الإسكندرية والذي قدم الكثير للمدينة وللأسف تحول قصره إلى مخزن للكتب الآن ويعاني من الإهمال الشديد الذي يطمس معالمه ويضم الحي كذلك مبنى كلية العلوم القديم التي درس بها كثير من العلماء المصريين منهم الدكتور أحمد زويل صاحب جائزة نوبل في الكيمياء وهو المبنى الذي أراد الطبيب الشهير علي باشا إبراهيم المولود في الإسكندرية تحويل حجراته إلى عنابر وغرف عمليات في وقت الحرب العالمية الثانية قد أطلق إسمه علي أكبر مدرجات تلك الكلية ومن بين المدارس العريقة في الحي مدرسة العباسية الثانوية العسكرية بنين التي أنشأها الخديوي عباس حلمي الثاني وسميت باسمه والتي بدأت الدراسة بها في شهر أكتوبر عام 1910م وهي المدرسة التي تخرج فيها الكثير من الشخصيات الهامة والأعلام المصريين في مجالات السياسة والعلوم والآداب ومنهم الأديب الكبير توفيق الحكيم وغيره …..
وقد كانت الكثير من شوارع الحي تحمل الكثير من الأسماء الأجنبية منها لويجي إستاني وتنكيز وجرانفيل وسلفاجو وأتوفاج وهي الشوارع التي تغيرت أسماؤها وتمصرت بعد ثورة عام 1952م ومن الأماكن الشهيرة في الحي سجن الحضرة الذي حبس خلف جدرانه أعتى المجرمين ومنهم السفاحتان السكندريتان الشهيرتان ريا وسكينة كذلك يوجد نادي الصيد على أطراف الحي الذي كان من قبل مدرسة الرماية والتي تاسست في عام 1949م لإشباع رغبة الملك فاروق وحاشيته في الصيد وكان النادي يضم مباني خشبية وميادين للحمام والأطباق وأماكن لتخزين الحمام وكان معظم أعضائه من الأجانب وإفتتحه حسين صبري باشا شقيق الملكة الأم نازلي وخال الملك فاروق وكان الباشوات والأعيان يخرجون منه لرحلات صيد ترافق الملك فاروق إلى إدكو ومريوط أو منطقة السلسلة بالأزاريطة …..
هذا ويتميز الحي العريق بالكثافة السكانية العالية ولذلك أصبح بما يشمله من معالم وسكان ومحال ومراكز تجارية ومعارض وورش ومصانع مدينة متكاملة الخدمات داخل الإسكندرية فمن النادر ألا تجد هناك أى من مستلزمات الحياة اليومية والموسمية فقد كان الحي ولا يزال يمتلئ بمصانع النسيج مثل بوليفارا والأقطان مثل كابو التي أممها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وكذلك مصانع الزجاج والمطابع والكبريت والزيوت والصابون وكذلك فقد تحول الحي حاليا إلى مركز للترفية والتسوق بعد وجود الهايبر ماركت على أطرافه مثل كارفور وغيره فأصبح الحي قبله لراغبي التسوق والشراء ….
ومن أشهر من أنجبهم الحي العريق يأتي الكاتب الكبير توفيق الحكيم المولود عام 1898م وقد تلقى تعليمه الثانوي في مدرسة العباسية الثانوية في الحي ذاته ومن أشهر ما كتب الحكيم عن الحي حكاية ولادته في بيت خالته الكبرى وهو المنزل الذي رآه حينما بلغ الخامسة أو السادسة ووصفه بقوله إنه منزل صغير مكون من طابق واحد به حديقة صغيرة فيها تكعيبة عنب خيل إلي يومئذ أنها حرش من الأحراش وولدت في الحي أيضا الفنانة هند رستم عام 1929م والفنانة بهيجة حافظ والفنانة ليلى مراد التي ولدت لأسرة يهودية عام 1918م والمطرب عمر فتحي وولد فيه من الفنانين التشكيليين الفنان الكبير محمد ناجي أحد رواد الحركة الفنية الحديثة في مصر والأخوان سيف وأدهم وانلي وقد كتب الأول في مذكراته كنا نلتقي بالفنانين الذين يمرون بالإسكندرية ويهبطون إليها أياما ليسجلوا إنطباعاتهم السريعة وكنا نلتقي بهم مصادفة وهم يرسمون وبخاصة على ضفاف ترعة المحمودية حيث كان بيتنا …..
ومما يذكر أيضا أن حي محرم بك كان مركزا لأحداث كان بطلها سفاح الإسكندرية الشهير محمود أمين سليمان الذي ألهم الأديب الكبير نجيب محفوظ صاحب جائزة نوبل في الأدب روايته الشهيرة اللص والكلاب وعاش به لفترة الأديب السكندري إدوارد الخراط وذكره في رائعتيه ترابها زعفران ويا بنات إسكندرية كذلك دارت به أحداث كثيرة في رواية الأديب الكبير إبراهيم عبد المجيد طيور العنبر كما ولدت به رباعية الإسكندرية للكاتب البريطاني الشهير لورانس داريل حيث أقام في منزل عائلة إمبرون أثناء الحرب العالمية الثانية وفيه تعرف إلى الفنانة كليا بدارو وهام بها حبا وعشقا وغراما وأطلق إسمها على واحدة من رباعيات الإسكندرية والتي أصبحت علامة فارقة ومتميزة في تاريخ الأدب الروائي العالمي .